
09/01/2025
الرابع والثلاثون 🎂
مساء أمس قالت أمي مُعاتِبةً: الكتابة ليست عذرًا، تعالي وأنجزي عملك عندنا، غرفتك بعيدة عن مصدر الإزعاج.
فتحت أمي الغرفة المغلقة، فقد اكتفت هي ووالدي بحجرات الطابق الأرضي، أما الطابق الثاني فصار مهجورًا منذ سنوات. ولم تُفتح غرفتي منذ ذلك الحين إلا لنفض الغبار وإرباك الذكريات الساكنة فيها.
رميت أغراضي على السرير، تأمّلت الجدران بطلائها الزهري الفاتح، شتمتُ نفسي في سرّي على ذوقي الرديء سابقًا، ثم رحتُ أقلّب في الكتب المصفوفة على رفّ المكتبة. كلها مراجع أكاديمية اقتنيتها في المرحلة الجامعية، كتب في علم النبات والطفيليات والفسيولوجيا. على الكومدينة ساعة منبّه معطّلة، وفي أحد الأدراج وجدت حقيبة أدوات التشريح مع عدد من قفازات اليد الشفافة. تحسّستُ رأس المشرط الحاد بإصبعي، فانفتق شرخٌ في الذاكرة تسرّبت منه صور ومشاهد منسيّة.
لمحتُ نفسي في تلك اللحظة في هيئتي القديمة، نسختي في عمر العشرين عامًا، وشعرتُ برغبة في أن أحتضنها، على الرغم من غرابتها. وأن أخبرها الكثير، اليوم وقد أكملتُ عامي الرابع والثلاثين
أخبرها بأن رحلتها في الحياة ستكون مثل تجربة السفر في قطار يعبر سلسلة من الأنفاق القصيرة: ضوء، عتمة، ضوء، عتمة، ضوء، عتمة، ضوء….
أخبرها أن الميزة التي تتفرّد بها، هي نفسها التي ستجلب لها المتاعب. وأن أكثر ما تتوق إليه، لن تحصل عليه، لكنها ستتقبّل غيابه. وأن أشياءً ستندم عليها، لكن ما أن تبدأ بكتابة ماضيها حتى تدرك أن مواضع فشلها وأخطائها هي ما يحدّد من هي، وإذا ما وضعتها جانبًا فلن يبقى منها شيء.
أخبرها بأنها ستحقّق رفاهيتها في اكتشاف ما تحب أن تفعله: الكتابة! ليس فعل الكتابة وحده مصدر ثرائها، بل كل ما يتبعه ويصاحبه ويدفعها نحوه. وستعيش بفضل الكتابة الحياة التي تشبهها، وستشعر دائمًا وهي تكتب “بالكمال”.
أخبرها بأنها ستحظى بالكثير من الحُب، وتختبر الكثير من الألم أيضًا. لأنه لا يمكن أن نعيش الحُب دون أن نتعرّض للألم. وأنها ستكون محظوظة للغاية بأصدقاء رائعين يلازمها الشعور بالامتنان في صُحبتهم. ستكتسب عينيها برفقتهم بريقًا، وستتلوّن ضحكتها.
أخبرها بأنها ستحقق حلمها في الأمومة، ستكون تجربة مفعمة بالتناقضات والمفارقات. مثيرة ومبهجة للغاية، مؤلمة ومكلفة للغاية. وسيكون نهجها فيها:
فظلّ يريني الخطبُ كيف اعتداؤه
وبِتُّ أريه الصبر كيف يكون.
⬇️⬇️