10/05/2025
بين يدي الكتاب
بقلم/ العلامة الدكتور محمد عبد الرحمن شميلة الأهدل
الحمد لله الذي اختصَّ هذه الأُمَّة بعِلمِ الحديثِ ليبين لهم ما نزل إليهم ويهديهم إلى صراط مستقيم، وأفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم على سيِّدنا محمَّدٍ المبعوثِ رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فكلُّ علوم الشرع وافرةُ الخيرات والعوائد، جزيلةُ البركات والفوائد، ما التمسَها طالبُ عِلمٍ إلا وغمرته السعادة، وما خدمَها عالم بعلمه إلا عمَّتْهُ الحُسنى وزيادة، ولا سيَّما علمُ الحديث النبوي، والهديُ الشريف المحمدي؛ فعليه مَبنى قواعد أحكام الشريعة الإسلامية، وبه تفصيلُ مُجمَل الآيات الكريمة القرآنية.
ورحم اللهُ تعالى الحافظَ ابنَ عساكر إذ يقولُ مِن قصيدةٍ:
واظِبْ على جَمْعِ الحديثِ وكَتْبِهِ
واجْهَدْ على تَصْحِيحِهِ في كُتْبِهِ
فهوَ الـمُفسِّرُ للكتابِ وإنَّما
نَطَقَ النَّبيُّ لنا بهِ عن رَبِّهِ
فتَفهَّمِ الأخبارَ تَعْرِفْ حِلَّهُ
مِن حُرْمِهِ مَعَ فَرْضِهِ مِن نَدْبِهِ
وهوَ الـمُبيِّنُ للعبادِ بشرحِهِ
سُنَنَ النَّبيِّ المصطفى مَعَ صَحْبِهِ
فهو مِن أهمِّ ما صُرِفت فيه أعمارُ الأنام، وأحقِّ ما بُذِلت في خدمته نفائس الأزمان، وقد حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على النُّزول عند سُنَّته الشريفة في سائر الأوقات ومختلف الحالات، وأرشدَ إلى التمسُّك بها في جميع الـمُهِمَّات، فقال: «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي.. فَسَيَرَى اخْتِلَافاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ».
ثم أوصى صلى الله عليه وسلم بالرِّواية، بل أمرَ أُمَّتَه مِن بعده بها، فقال: «أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ» ؛ فهي سُنَّة نبوية أكيدة، ووصيَّة مُحمَّدية حميدة.
ومن ها هنا نهضَتِ الهِمَم لجمعِ السُّنَّة الشريفة وتدوينِها، وبذلَ العلماءُ طاقتهم وجهدهم في سبيل حفظِها وتبليغِها؛ ولأجل هذه الغاية النبيلة العزيزة أسَّسوا علم الإسناد؛ إذ لا تكون روايةٌ بغير إسناد كما لا يكون بيتٌ بغير عماد.
وعمل بها العلماء الـمُتقدِّمون وتناقلوها منذ بداية عصر التدوين، وورِثَها الـمُتأخِّرون ولن يزالوا لها وارثين إلى يوم الدِّين.
فجزاهم اللهُ تعالى عن الأُمَّة خيرَ الثواب والجزاء، وضاعفَ لهم الأجرَ يوم الحساب واللقاء.
* * *
وكتابُ «المستدرك» أحدُ أهمِّ دواوين السُّنَّة النبوية الـمُطهَّرة الـمُتعلِّقة بـ «صحيحَيِ الإمامَينِ الشيخَينِ البخاري ومسلم» رحمهما الله تعالى، مشهورُ الذِّكرِ في البلاد والأقطار، منشورُ العَلَم على تعاقب الأعصار، لا يُستغنى عنه في فنِّه وبابه، شهد له بهذا كلُّ أهل الفنِّ وأربابه، مشهودٌ لـمُصنِّفه الإمام الحافظ الحاكم رحمه الله تعالى بالعِلم والعمل، والسَّبْق والفضل، والأمانة والصِّيانة، والضبط والورع، وهو إمامُ أهل الحديث في عصره، العارفُ به حقَّ معرفته؛ تصنيفاً وتخريجاً، وجرحاً وتعديلاً، وتصحيحاً وتعليلاً.
صنَّفَه الإمام الحافظ ابن البيِّع رحمه الله تعالى مُستدرِكاً أحاديث صحيحة زائدة على أحاديث «الصحيحين»؛ مما هو على شرطهما أو على شرطِ أحدِهما، أو هو صحيحٌ ليس على شرطِ واحدٍ منهما.
وسببُ تصنيفه: حكاه الإمام الحاكم رحمه الله تعالى بإيجاز واختصار في مقدمته؛ وهو أنَّ قوماً من المبتدعة ادَّعَوا قِلَّةَ الأحاديث الصحيحة، وأنه لم يصحَّ إلا ما رواه الشيخان رحمهما الله تعالى، وهو قليل، فألَّف الإمام الحاكم رحمه الله تعالى كتابه هذا ردّاً عليهم؛ ليُثبِت أن الحديثَ الصحيحَ الزائدَ على ما في «الصحيحَينِ» وما يُلحَق به.. كثيرٌ؛ ليتمَّ له الردُّ عليهم بقَدْرٍ كبيرٍ من الحديث الصحيح، ومما يندرج تحته ويُلحَق به، لكنه توسَّعَ في عدم التفرقة بين مَن يُحتَجُّ به من الرُّواة ومَن لا يُحتَجُّ به، فكان واسع الخطا في التصحيح.
وهنا مَلحَظٌ مُهِمٌّ جدّاً؛ وهو غرض أولئك المبتدعة مِنِ ادِّعائهم ذلك، وهو الذي تنبَّهَ له الإمام الحاكم رحمه الله تعالى؛ ألا وهو الانتقاص من الدِّين بتوجيه سهامٍ مسمومةٍ إلى المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي؛ أي: السُّنَّةِ النبوية الـمُطهَّرة؛ من حيث ادَّعَوا أن الأحاديث التي صحَّتْ واستقرَّ الأمر عليها.. استوعبها الإمامان البخاري ومسلم، وأنها لا تتجاوز عشرة آلاف حديث، وأنها كلُّ ما صحَّ لديهما، واستطاعا تنقيته وجمعه؛ فوجَّهَ هؤلاء إلى علماء الأُمَّة ومُحدِّثيها نقداً اتَّهموهم فيه بأن هذه المسانيد والأجزاء الحديثية المنتشرة لا فائدة منها ولا صحيح فيها، فوجبَ بهذا الردُّ عليهم.
* * *
والكتابُ على بُعدِ شُهرته وكبيرِ أثره، وذُيوعِ صِيته وعظيمِ خطره.. لم تنله كما ينبغي أيدي العناية، ولم يفِ بحقِّ خدمتِه أهلُ الرِّواية ولا الدِّراية، حتى قيَّضَ اللهُ تعالى لهذا الشَّرَفِ العالي الشيخَ العلَّامةَ الدكتور محمود أحمد مِيرة رحمه الله تعالى، فخدمه خدمةً فائقة، واعتنى به عنايةً مباركة؛ دراسةً وتحقيقاً داما نحواً من خمسين سنةً.
فقد بدأَتْ مسيرتُه مع «المستدرك» أثناء تسجيله عنوان أُطروحة الدكتوراه في كلية الدعوة وأُصول الدِّين بجامعة الأزهر الشريف سنة (1387 هـ)، والتي كان عنوانها: «الحاكم النيسابوري وكتابه: المستدرك على الصحيحَينِ».
فكان أن استوقفه في بداية البحث مُشكِلاتٌ عديدةٌ بمطبوعة الكتاب الوحيدة آنذاك، فعقد العزم على تحقيقِه تحقيقاً علميّاً متقناً، ودراسةِ أحاديثه دراسةً وافيةً مُفصَّلة.
واضطرَّ أثناء إعداد الأُطروحة إلى البحث عن نسخٍ خطِّيَّة يعتمد عليها في دراسته، مع ما رافق ذلك حينها مِن مَشقَّاتٍ وصُعوباتٍ يعلمُها كلُّ مَن أدرك تلك الأيام.
فبيَّنَ في الأُطروحة والتحقيق أن «المستدرك» كتاب جليل عظيم، جمع بين دفَّتَيهِ أحاديثَ مُنظَّمةَ التناسق، مُحكَمةَ الترتيب، وأن الإمام الحاكم رحمه الله تعالى استطاع أن يرسم صورةً واضحةً لجهده فيه وعنايته به؛ فكتابُه ليس متناً حديثيّاً فحسب، بل هو كتابٌ تطبيقيٌّ لعِلم قواعد الحديث، والإمامُ الحاكمُ رحمه الله تعالى رائدٌ فيه؛ فهو يتكلَّمُ على كل حديث من حيث الصناعةُ الحديثية، ثم يُصدِر حكمه عليه، وما سكت عنه.. فله عُذره فيه.
ثم يذكرُ غرضَه من كل شاهد أو تابع؛ فهو لا يُكرِّر إلا لغاية، ثم يُبيِّن هذه الغاية.
ثم يذكرُ في أثناء كتابه طريقتَه في تقعيد القواعد له، فبرزَتْ عنايتُه بالأسانيد، وطريقتُه في الكلام على كلِّ سندٍ والتعبير عن كل ما يتعلق به، ثم في الكلام على متنه فقهاً أو دلالةً تُؤيِّد غايتَه تلك.
* * *
وفي الختام: كم كانت سعادةُ دار المنهاج غامرةً حين وفَّقَها الله تعالى لنشر هذا الكتاب المبارك، وها هي ذي تُقدِّمُه للعلماء والباحثين وطلبة العلم يرفلُ في حُلَل العناية والجمال، سائلين الله تعالى أن يتقبَّلَ عمل العاملين فيه، وينفعَهم به يوم العرض عليه، وأن يعمَّ المؤمنين نفعُه، وينالَنا وإيَّاهم بركتُه؛ بمنِّه وكرمه، آمين.
وأن يزيد صاحب الدار الشيخَ عمر سالم باجخيف توفيقاً في خدمة ما تبقى من المسانيد، وأن ينعم عليه بخيري الدارين إنه سميع مجيب، وبالإجابة جدير.
وكنت قلت قديماً مبيناً اهتمامه بمآثر السلف من قصيدتي الميمية:
وهَبْ لناشرِ هذا السِّفرِ بغيتَهُ
وحلِّه بالتُّقى وارفعهُ في القِممِ
فكم تكبَّد في نشر العلومِ وكم
سعى لمخطوطةٍ تمتازُ بالقِدَمِ!!
سَلْ دار منهاجه عن كُنْه هِمَّته
فعزمُهُ صارمٌ عارٍ عن السَّأَمِ
فإنه عمرٌ فرعُ الجُخَيْف له
مكانةٌ قد عَلَتْ بالخُلْق والشِّيَمِ
واجعل بطيبةَ سُكنانا فإنَّ لها
خصائصاً فَصَفَتْ بالمفرد العَلَمِ
عسى الشفاعةُ يومَ الحشرِ تشمَلُنا
كما أتى مُسنداً في أبلغ الكَلِمِ
وأخيراً:
لا ننسى في مقامنا هذا أن نتوجَّهَ بالشكر الوافر الجزيل، والثناء العاطر الجميل، والتقدير الخالص الكبير.. إلى جميع أعضاء اللجنة العلمية بمركز دار المنهاج للدراسات والتحقيق العلمي، أولئك الذين بذلوا جهداً طيِّباً مشكوراً، وصنعوا صنيعاً مباركاً مبروراً، في مراحل خدمةِ الكتاب وإعدادِه للنشر؛ مقابلةً ومراجعةً، وقراءةً وتدقيقاً، وضبطاً وترميماً.
والشكر موصول أيضاً إلى كلِّ مَن ساعد في الحصول على النسخ الخطِّيَّة، أو شارك في إخراجه، أو أعان على ذلك؛ متابعةً وتصحيحاً، وتخطيطاً وتصميماً، جزاهم الله تعالى خير الجزاء، وأثابهم أفضل الثواب.
والحمد لله رب العالمين
الطائف
الخميس 4 جمادى الآخرة 1446 هـ
الموافق لـ 5 ديسمبر/كانون الأول 2024 م
وكتبه
أ. د. محمد عبد الرحمن شميلة الأهدل
أستاذ الحديث الشريف وعلومه بجامعة الطائف