12/10/2025
الحرب المقدسة في اليهودية
حيث ارتبطت فكرة الحرب المقدسة بمفهوم الحِرِم، أي التكليف الإلهي بالقضاء على العدو بلا رحمة. ففي سفر يشوع يُروى أن بني إسرائيل قتلوا سكان أريحا «من رجل وامرأة، من طفل وشيخ». هذه النصوص أسست لخيال ديني يرى في العنف وسيلة لإتمام مشيئة الله، وشرّعت نموذجًا للحرب باعتبارها أمرًا مقدسًا لا نزاعًا بشريًّا فحسب.
الحرب المقدسة في المسيحية
مع الزمن، بدأ التنظير لفكرة «الحرب العادلة» عند أوقسطين، الذي رأى أن الحرب قد تكون مبررة إذا خيضت لإقرار العدالة أو لردع الشر. غير أن التحول الأعمق جاء حين أعلن البابا أوربان الثاني أن تحرير القدس «حرب مقدسة»، وأن المشاركة فيها طريق إلى غفران الخطايا. بذلك ارتبطت الحرب في المخيال المسيحي بالخلاص الأخروي، لترسّخ صورة الحرب المقدسة بوصفها معركة كونية بين النور والظلام.
الرؤية الإسلامية الرمزية للحروب
الحرب في المنظور الإسلامي لا تُقدَّم باعتبارها غاية أو قدرًا مقدسًا للإبادة، بل تُصوَّر بوصفها خيارًا اضطراريًّا عندما تتغلق سبل السلم. ويفتتح النص القرآني هذا الباب بصياغة حاسمة: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ». هنا يظهر الفارق الجوهري: القتال مقيَّد بالعدوان ومضبوط بحدود أخلاقية.
الحرب من أجل الرسالة لا الإبادة
الحرب في الإسلام ليست لإجبار الآخر على اعتناق العقيدة أو قتله، بل يُعطى غير المسلم موقعًا مشروعًا داخل المجتمع الإسلامي، بحقوق مصانة ومعاهدات تحفظ كيانه وديانته. ولهذا فإن الغرض من الحرب لم يكن «إبادة العدو»، بل إزالة العوائق التي تمنع وصول الرسالة، أي فتح المجال للتواصل الحر.
نتنياهو وانحراف الرمز
النص الذي كُتب تعبيرًا فرديًّا عن مطاردة الأعداء في عالم رمزي قديم، يتحول في خطاب نتنياهو إلى شعار لإبادة سياسية. وهنا تتجلى آلية الانحراف: نص مفتوح على احتمالات متعددة يُسجن في تأويل واحد يخدم خطاب القوة. إن الرمز، الذي كان يفترض أن يفتح على الذاكرة والمعنى، يُختزل في أمر تعبوي يبرر القتل.
من القداسة إلى مورد العنف
يربط بول ريكور هذا الانحراف بعلاقة النص بالذاكرة. فالنصوص لا تعيش في فراغ، بل في ذاكرة جماعية تُعاد صياغتها باستمرار. وحين تستدعي السلطة نصوصًا مقدسة في زمن الحرب، فهي لا تقرأ النص فحسب، بل تعيد كتابة الذاكرة بطريقة تُسخّر التاريخ في خدمة الحاضر. هنا يتقاطع النص مع السلطة، وتتحول القداسة إلى مورد للعنف.
الأزمة الحقيقية
هذا البعد الفلسفي يكشف أن ما نواجهه ليس مجرد قصف عسكري، بل أزمة في معنى النص ذاته. فإذا كان الرمز الديني قابلًا دومًا للانحراف، فإن التحدي الفلسفي هو كيف نعيد فتح النصوص على تعدديتها، كيف نستردّ قدرتها على الإيحاء الرحب بدلًا من استسلامها لخطاب الفناء.