23/11/2025
*عندما ظهرت اللافتة*
*عبدالمحسن ميرغني عبدالله*
كانت الملاريا في تلك السنوات مثل موعد ثقيل لا يتأخر.
تأتي تقريبا بعد كل امتحانات بالمدرسة الثانوية ، وكأنها جزء من جدول دراسي لا يرحم.
جسدي ينهار… رأسي يدور… وأعيش أياماً لا يفرق فيها الليل من النهار،
والغريب في الأمر أن ختام الملاريا بل بعد أن أتعافى منها وفي احاين كثيرة أشعر باغماء عند أول خروج لي من هذة (الزائرة) .
في إحدى جلساتي مع صديق مقرّب، بعد أن شكوت له من (زائرتي) التفت إلي بعينين فيهما إصرار شديد لا أعرف مصدره، وقال:
"نمشي سواء للشيخ ....... بيعالجك وأنا زاتي داير أمشي ."
كنت متردداً.
الطريق بعيد، وأنا لست مقتنعاً بالفكرة أساساً، لكن صاحبي قال بثقة قاطعة:
"المواصلات من سوق الجبل بتودّي طوالي… الموضوع ساهل."
اقتنعت… أو ربما استسلمت.
خرجنا في الموعد من الكلاكلة في رحلة طويلة، حملت على كتفيها قلقاً ثقيلاً لا يُقال.
وصلنا سوق الجبل.
ضوضاء، ازدحام، وجوه كثيرة، ثم ركبنا مجددا العربة المتجهة إلى منطقة الشيخ ال .....
كلما اقتربنا، ازداد داخلي توتر غريب.
شعور يشبه الوقوف على بابٍ لا تعرف ما خلفه.
ثم ظهرت اللافتة:
" قرية الشيخ...... "
باردة… جامدة… كأنها حارسٌ يراقب الداخلين.
نزلنا من العربة.
الشمس كانت متوحشة، والأرض حارقة لدرجة تشعر معها بأن النار تخرج من التراب.
لكن المشهد الذي صعقني لم يكن الحر…
كان الناس.
رجال ونساء وأطفال…
كلهم حفاة، يحملون نعالهم في أيديهم، يمشون فوق الأرض الملتهبة ليقطعوا هذه المسافة .
التفتُّ لصاحبي، فوجدته يخلع نعليه بهدوء، كأنه يمارس طقساً يعرفه منذ زمن.
أما أنا… فلم يكن هذا عالمي، (مشيت كيري) ولابس حذائي.
وصلنا المسجد بعد هذا الميدان الكبير والناس فيه حفاة فلله الحمد انتهى امتحان المشي على التراب الحار.
دخلنا المسجد من أقرب باب من هذا الميدان لكن الزحمة دفعتني معها، شيئاً فشيئاً، حتى…
وبطريقة لا أفهمها…
وجدت نفسي وجهاً لوجه مع الشيخ ........
سلمت عليه سلاماً عادياً.
بلا انحناء.
بلا تقبيل.
بلا طقوس.
نظر إلي نظرة فاحصة، ثم قال بصوت هادئ لكنه حاد:
"الأدب… أهم شيء."
لم يقلها لمن قبلي، ولا لمن بعدي.
قالها لي… وحدي.
فكانت الجملة مثل امتحان مباغت أو (فرصة في الاضان) .
تماسكت وشرحت له عن الملاريا التي تهاجمني كل عام، وعن ( الدوخة) التي تعقبها.
أعطاني وصفتين:
واحدة علاج بلدي،
والأخرى (بخرات)
"صباح ومساء."
خرجت، فوجدت صاحبي ينتظر وكأنه لم يشاهد شيئاً من مشهدي القصير.
أخذنا “البخرات”، وعدت إلى البيت.
استعملتها حتى انتهت بنفس الطريقة (للاسف الشديد ) أسأل الله أن يغفر لي .
لكن ما هي النتيجة؟
لا تُعرف إلا حين يحين موسم الامتحانات القادم إن جاءت ملاريا أخرى.
أذكر تماماً أن ( زائرتي ) عاودتني ، مرة بعد مرة، كأنها تذكّرني بأن المسألة لم تنته بعد،
و بالتالي ( بخرات ) الشيخ ..... لم يكن فيها العلاج و(طلعت بيش)
في محطة أخرى من محطات البحث عن علاج هذه (الزائرة)
وما كان يزعجني ليس الملاريا بل ما يعقبها ..فذهبت بعدها إلى محل أعشاب في أمدرمان
شرحت للعطار ما أعانيه.
أعطاني خلطة فيها زيتٌ لا أعرفه، ومسحوق أعشاب، ثم قال:
"أطول ريشة في ضنب الديك… قصها… خُجّ الخلطة… وتبلها بالزيت… ونقط نقطة في نخرتك."
لم استخدم الوصفة لأسباب لم أعرفها.
وبقيت الوصفة مهملة في شباك الغرفة، تتراكم عليها طبقات الغبار يوما بعد يوم.
وكأنها رمزٌ لعدم قناعتي ب (ريشة الديك) .
في الختام أيها القارئ الكريم قد تتفاجأ فقد كانت تفاصيل هذه القصة حقيقية وأذكر أنها كانت في نهاية معظم الامتحانات في المرحلة الثانوية وسنويا بل امتدت حتى مرحلة الجامعة وكل نهاية امتحانات تأتي (زائرتي) بدون كل ولا ملل .
ثم تخرجت من الجامعة
بعدها بقليل تزوجت بحمد الله تعالى
ومنذ زواجي الأول ( ثلاثة وعشرين عاماً ) وحتى هذه اللحظة التي تكتب فيها ، لم تعاودني (زائرتي) مرة أخرى بحمد الله تعالى.
فأدركت يقيناً أن هناك أبواباً
كثيرة تُطرق عبثاً، لا طائل منها بل قد تأتي بالخذلان.
لكن هنالك أبواب أخرى
تأتي من عند الله الرحمن.
بلا بخرات
ولا محايات
ولا طقوس
ولا انحناءات .
وأن بعض العلل لها علاج لا يُباع، ولا يُكتب، ولا يُعلّق في رقبة… بل يضعه الله في استقرار النفس وسكينة الحياة.
وفي الختام
أهديك، أيها القارئ الكريم، هذه القناعة التي أيقنت بها في حياتي:
الشفاء، ليس له إلا مصدر واحد فقط هو ربنا تبارك وتعالى
*وإذا مرضت فهو يشفين* .