10/07/2025
🔹إغماضة إيسب الأخيرة
✍🏼/ حكيم شمية
رغم الحزن الطاغي خرجت صباح امس وبالتزامن مع غرس ايسب في ثري عبري, اهيم علي وجهي, واسمعه وهو يغني:
بلّال يا بلّال ايووو وو بلّال
اركين دفين كون تودا وو بلّال
إينل اديكون تودا وو بلّال
دنين شارتكون تودا وو بلّال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حين غنّى مكي "أركيق مشكلين إيقا"، حدّثتُ صديقه الأثير علي سيد همّت وقلت:
"هذه أغنية وداع... مكي يرثي نفسه! تكاد تطابق 'صواردن شو' لمحمد وردي". كأن مكي يرسم ملامح الفصل الأخير من حكايته".
وهذا، في الأدب النوبي، يُعرف بـ"متين مراد" — وصيّة مفارق.
وكان الحديث بيننا: "على مكي أن يعود!"
كنت أعيش على أمل أن يعود... كنت اظنه يختبر معزته لدينا، وداعبته كثير: مكي انت عاوز تدلل علينا والا شنو؟، أن يعود كما عهدناه دومًا، سيدًا للحلول، وصاحبًا للمشروع، ممتطيًا صهوة جواد المستحيل؛
يعود من خلال مفردةٍ معبرة، أو نغمةٍ شجية، أو خارجًا من إطار إحدى لوحاته، عابرًا الزمان كما اعتاد أن يفعل.
لكن مكي قرّر أن يعود إلى صنوه، ليعزف لحن الخلود، ويغمض إغماضته الأخيرة...
لأن هناك مكيين.
أولهما: مكي علي إدريس الإنسان، الذي حملته أمه بابا الشيخ تسعة أشهر، ثم أطلق صرخته الأولى معلنًا قدومه إلي الحياة.
نشأ بسيطًا بين أهله، نقيًّا كماء النيل، رقراقًا وعذبًا كجدول ساقية في صباحٍ نديّ،
قريبًا من الناس، مهمومًا بقضاياهم،
وغادرهم كما جاء: خفيف الروح، طيب الأثر.
أما مكي الآخر، فهو الرسالي، وجهٌ آخر لنفس الروح...
صاحب المشروع الكبير، الذي حمل همّ القضية والحلم، وسار بهما بعزيمةٍ لا تعرف الوهن،
دون أن يطلب جزاءً أو شكورًا.
لم يكن مكي الرسالي غريبًا عنّا،
كان يسكن وجداننا منذ آلاف السنين...
في متون الأهرامات بمروي، وفي سفوح البركل شاهدًا على ميلاد الحضارات.
عاش في دوكي قيل، وشارك في بناء الدفوفة،
واستقبل جيش تهارقا المنتصر عند تخوم كرمة،
وأجرى إزميله على الصخر لينحت تمثال أقجنوندي.
صلّى في بوهين، ونقش ذاكرته على جدرانها،
تجول في جزيرة فاللي، وترك أثره في كلابشة،
ونقش نصوص اتفاقية البُقط في جبل نوري،
وتطهّر في قدس الأقداس بـأبوسمبل، حيث عمّدته الإلهة حتحور بالموسيقى،
فحمل قيثارته ليشنّف آذاننا بعطر الغناء.
كان يجوب القرى والأحياء منذ فجر الحياة:
من دفوفة صاي، إلى سَدَنقا، وصَلِب، وسيسة.
وفي بلاد الرافدين، تقمّص روح أنكيدو، ليكبح جماح الشر في جلجامش.
في اليونان، جالس هوميروس، واكتسب الحكمة.
وفي جزيرة العرب، نادم الزير سالم وطارحه الشعر.
عاد الرسالي ليُملي الملاحم، ويعيد للأدب الغنائي روحه، وينفخ فيه من وجدانه، و يدون علي جدار الزمان ملحمة ايسب وهيلا.
ثم عَرَج إلى أرض الرسالات،
وسار مع المسيح على البحيرة،
وعاد ممتلئًا بالمحبّة،
تلك المحبة التي غمرت "مكي الإنساني"،
وفرشت طريق "مكي الرسالي" بمهادٍ من الجمال.
كان ينثر بذور المحبة حيثما حلّ،
ويغرس قيم الجمال بوسامته المعهودة،
في موقفٍ يشبه نقاءه،
أو في نقشٍ على صلد الحجارة،
أو في نغمةٍ طنبور تشقّ النهر، وتنساب كما ولوتي الشمال.
كان بلسمًا يضمد جراحنا في الملمات،
وصوتنا المصادم حين تدلهم الخطوب.
وكان أنشودة أفراحنا في مواسم البهجة...
وما أجمل البهجة حين تأتي من مكي الناس!
قاوم مشروع الإسلامويين بمشروعه الناجع، وبقلمه الصلب.
وحين شنّ خفافيش الظلام حملتهم المسعورة لطمس الأرض والتاريخ والحضارة النوبية،
كانت أدوات مكي هي الأنجع.
كان حائط صدّنا، وملاذنا، ومكاننا...
نستمع إلى آقجنّا أورقناني في الليالي، نذرف الدموع،
ثم نستيقظ وقد ازددنا عددًا وثباتًا: النوبة عصيّة على الإغراق.
وعندما دبّروا مكائد التعريب القسري،
انبرى مكي، صاحب المشروع الأعظم، شاهِرًا قلمه،
فتتكسر مؤامراتهم على صخور تمرده،
كما حطّم في شبابه أسطورة كوركدين كد في عبري.
كان همه الأكبر إحياء اللغة،
فوضع مناهج تعليم اللغة النوبية،
ألّف المعاجم والقواميس، كتب القواعد،
وأسس لرؤية تعليمية شاملة.
وفي عودته الأخيرة إلى مسقط رأسه،
كأن لسان حاله يقول:
"ها أنا قد أكملت مشروعي.
وآن للرسالي فيّ أن ينصهر في الإنساني،
لنواصل معًا رحلة الخلود.
ها أنذا في انتظار أقداري،
روحًا تهيم، تنشر عبقها، وتظلّلكم للأبد،
لتنبعث يومًا في جسد آخر،
ويبدأ فصلًا جديدًا من المشروع الحلم والبقاء".
عاد، ليصنع الخاتمة الأجمل لحكايته، كما أراد.
من عاصمة النوبة، ألقى نظرة الوداع على جزيرة مقاصر، حيث أرحام أبيه.
تنسّم عبق الدفوفة وأقجنوندي،
وفي تخوم جبل نوري ومشكيلة،
داعبت روحه شهداء كدنتكار: الصادق، المعز، شيخ، ومحمد فقير.
وعاد طائر البشارة، قلوكب، إلى أرض ميعاده وميلاده, إلي معشوقته عبري،
يلوّح وداعًا لـصاين دفي،
ويمسح الدموع عن خدّ ميمن مولي.
ويتوسّد تراب الأرض التي أحب، وينام
معطرًا برياحينها،
محمولًا على أكتاف الذاكرة،
كما المسيح، ينثر الطمأنينة والمحبة حتى في دروبه الأخيرة.
سترفرف روحه العاشقة لهذه الأرض عبر الزمان،
تظلّلنا، وتحمينا من غوائل الدهر،
وسيتجسد روحه العظيمة في إنسانٍ آخر،
ليبدأ فصلًا جديدًا من المشروع.
كان مكي سنَّ رُشدنا، ونخلتنا الوريفة،
الحييّ حين توارى الآخرون،
الأصيل حين تنكّر ناكرو الجميل،
المتواضع عندما تكبر من هم دونه موهبة وعطاءً ومواقفًا،
والمترفِع عن الصغائر...
لأن النفوس الكبيرة، كما قيل، "تتعب في مرادها الأجسام".
المتسامح حين ظلمناه جميعًا،لم نكن نعرف قيمة من كان معنا, ليتنا أدركنا ونهلنا من ينبوعك صباح مساء, كنت كثيرًا علينا, ارهقناك وفشلنا في الحفاظ عليك
أيتها الأرض،
كوني رفيقةً برفيقك،
كوني رحيمةً بمن كان رحيمًا بنا...
لقد غرسنا فيك أنبل نخلاتنا،
وأطولنا قامة، وأكثرنا إثمارًا...
فكوني حفيةً به.
يا أمة النوبة لقد اصبتم باليتم الي الأبد.. الي الأبد
شكرًا لاقداري التي اكرمتني ان أعيش في عصر شخص نادر اسمه مكي علي إدريس
شكرًا صديقي احمد شفا لأن اهتمامك جعل من عودة ابن بابا الشيخ إلي أرض ميعاده ممكنًا وهون علينا كثيرًا , وكفانا من تجرع مرارة ان يرحل مكي بعيدًا.
شكرا بابا الشيخ علي هذا المولود الإلهي, الذي جمل واقعنا, وخصب وجداننا وشذب سجايانا بكل ما هو جميل.
حلفا اليوم - 𝑯𝑨𝑳𝑭𝑨 𝑻𝑶𝑫𝑨𝒀