همسات اخر الليل

همسات اخر الليل همسات اخر الليل

رأى ابني انعكاس وجهه في وجه صبي مشرّد متكوّر على رصيف متجمّد في دنفر. قلت له إنها مجرد صدفة — كذبة ستفكك لاحقًا حياتي ال...
14/10/2025

رأى ابني انعكاس وجهه في وجه صبي مشرّد متكوّر على رصيف متجمّد في دنفر. قلت له إنها مجرد صدفة — كذبة ستفكك لاحقًا حياتي التي بنيتها بعناية فائقة.

كانت حياتي تدور حول الهندسة المعمارية — في عملي، وفي طريقتي في الوجود. خطوط نظيفة، بيئة مضبوطة. بعد وفاة زوجتي، أصبح هذا التحكم درعي الواقي. بالنسبة لي ولابني نوح، كان عالمنا مساحة مُختارة بعناية: مدرسة خاصة، أصدقاء منتقون، ومحل آيس كريم فاخر في حي مُعاصر. الفوضى الحقيقية للعالم كانت شيئًا نمرّ بجانبه فقط من خلف زجاج السيارة.

إلى أن جاء ذلك الثلاثاء.

قال نوح بصوت خافت وهو يشدّ على كمّ معطفي، وأنفاسه تتشكل كغيمة صغيرة في هواء نوفمبر البارد:
“بابا، انظر… إنه يشبهني تمامًا.”

اتّبعت نظره. في مدخل بناية جلس رجل بعينين شاحبتين كالأشباح، أمامه لافتة من كرتون كتب عليها:
“محارب قديم. أي مساعدة تُقدّر.”
وبجانبه جلس صبي، في عمر نوح تقريبًا، بعينين داكنتين ذكيّتين، وفكٍّ حاد، وشعر أسود فوضوي يخرج من تحت قبعة صوفية بالية. كان صدى ابني — نسخة منه محفورة في الغبار والفقر.

عُقدة من الضيق انكمشت في صدري.
“مجرد صدفة يا بني، هيا بنا.”
سحبته معي، وكان دفء محل الآيس كريم بمثابة هروبٍ مرحّب به. لكنني لم أستطع الهروب من عيني ذلك الصبي. كانتا عيني نوح، بعد أن سُلبتا الامتياز، وامتلأتا بصبرٍ منهك لا يليق بطفل في الثامنة.

لاحقني المشهد يومين كاملين. ثم بدأت نشرات الأخبار تُحذّر من عاصفة ثلجية نادرة ستغمر دنفر. كل ما كنت أراه في ذهني هما الرجل والصبي، غارقين في الثلج.

وجدتهما في نفس المكان، يرتجفان بشدة. بالكاد رفع الرجل رأسه. لم أعرف ماذا أقول، فقلت ما استطعت:
“استأجرت غرفة في نُزل لبضع ليالٍ. بجانبها مطعم صغير. أرجوك، دعني أوصلكما لمكان دافئ.”

كانت الامتنان في عينيه مؤلمًا كلكمة في القلب.

في المطعم، بدأت الحقيقة تتسرّب في شظايا صغيرة مروّعة. حين مدّ الصبي — سام — يده نحو كوب الماء، رأيت على معصمه وحمة صغيرة على شكل نجمة. تجمّد قلبي. كانت الوحمة نفسها تمامًا على معصم نوح، تلك التي كنّا نسميها دائمًا “شارة الشريف”.

ثم، عندما وضعت النادلة سلة خبز فيها بضع بسكويت بالفول السوداني، بدأ سام يختنق، وجهه شاحب، يلهث. حساسية شديدة من الفول السوداني. تمامًا مثل نوح.

الصدف لا تتراكم بهذه الطريقة. بل تتحوّل إلى أدلة.

في تلك الليلة، بعد أن غطّى الصبيان في النوم في غرفة النُزل، جلست مع الرجل — فرانك — في صمت بارد. كان يدخّن بشراهة، يداه ترتجفان. وأخيرًا، وهو يحدّق في شقّ بالجدار، قال:
“هو مش ابني.”
كانت كلماته خشنة، متكسّرة.
“هو ابن أختي.”

ثم حكى. عن أخته التي التهمها وباء المخدرات الأفيونية الذي دمّر مدينتهم الصغيرة في أوهايو. مات زوجها، وبقيت مع توأمين. وفي محاولة يائسة لإنقاذ أحدهما، رتّبت تبنّيًا مغلقًا لطفل سمّته نوح، لتهبه حياة أفضل. أما الآخر، سام، فتركته مع أخيها فرانك، قبل أن يقتلها جرعة فنتانيل زائدة.
فرانك، الجندي السابق، وعدها أن يرعى الصبي. لكن اضطراب ما بعد الصدمة والفقر دمّراه، حتى انتهى في الشارع مع ابن أخته.

جلست هناك، أشاهد البنية الهشة لحياتي تنهار. لم يكن هذا مجرد طفل مشرّد. كان نصف روح ابني، حياة انفصلت عند الولادة وسارت في طريق من الألم.

كان بإمكاني أن أكتب شيكًا وأمضي. أن أحافظ على عالمي النظيف المرتّب.
لكن حين نظرت إلى الغرفة ورأيت الصبيين نائمين في سريرين منفصلين، وذراعيهما تمتدان نحو بعضهما في الحلم — أدركت أن حياتي القديمة انتهت.

لم يكن الأمر سهلاً. كانت هناك أوراق قانونية، وأخصائيون اجتماعيون، ومعالجون. لم تكن خطوتي الأولى تبنّي سام، بل مساعدة فرانك. أدخلته في برنامج علاجي للمحاربين القدامى، ورتبت له وظيفة ثابتة في مستودع. استأجرت لهما شقة على بُعد شارعين من منزلي.

نحن لسنا عائلة تقليدية. نحن أبوان أعزبَان — أحدنا مهندس معماري، والآخر عامل رافعة شوكية — نربي توأمين يعيدان اكتشاف بعضهما البعض يومًا بعد يوم. نحن شيء أكثر فوضى، وأكثر صدقًا.

نحن عائلة لم تُبنَ على ماضٍ مثالي، بل على قرارٍ واحد بالتوقّف على رصيف بارد.
عائلة لا يحددها الدم فقط، بل الوعود التي نختار أن نحافظ عليها

#قصص #حكايات #حكاية #اكسبلور #حكمة #حكم #عبرة

05/04/2025

Address

Tunis

Telephone

+21698740736

Website

Alerts

Be the first to know and let us send you an email when همسات اخر الليل posts news and promotions. Your email address will not be used for any other purpose, and you can unsubscribe at any time.

Share

Category