19/11/2023
أجملُ ما أفتتح به هذا المقال قول الرافعي عن صديقٍ له ”وكنتُ أعرفُه مَعرفةَ الرأي كأنَّه في عَقلي ومَعرفة القلبِ كأنَّه في دَمِي!“
أذكر أول ما التقيته كان شابًا يافعًا، وسيم الوجه، ساكن الملامح، بريء التفاصيل، تلوح على محيّاه ابتسامةٌ عذبة، لكنه كان ذو طبعٍ غليظٍ قليلًا على من لا يعرفه! لا يسلّم مفاتيح الود والإسهاب بالحديث إلا بعد برهةٍ من الزمن، وعلى ذلك يخاله المرء للوهلة الأولى مغرورًا بنفسه ولا عجب! فإنه كما قلت غامضٌ بعض الشيء والناس بطبعها تخاف من المجهول فتلقي عليه مسميات كما تشاء لترضي فضولها المعرفي!
أمّا أنا فلم يكن مجهولًا بالنسبة لي، شعرت أن الروح التي تدبُّ داخلي قد فُطرتْ للتو على هيئة إنسيٍّ يكسوه اللحم والدم! وكنت أجيد فهم روحي لذلك فهمته بوضوح، كم يكون الإنسان سعيدًا عندما يجد صديقًا يكون مرآةً تعكس ما في داخله. اشتدت العلاقة بيننا على ما تشتهيه أنفسنا، كنّا نحمل ذات الفكر، الطموح، الإيمان وحب القراءة... وأظن هذا أمتن رابطٍ بيننا، القراءة! فقد طهرتني كما طهرته وسلمتني زمام الصبر والكفاح كما سلمته وهذا هو دأب العلم يجمع الناس منذ القِدم. وما أجمل الحياة عندما يكن بها صديقًا يعينك على متاعبها ويردّ عنك ما استطاع من شظفها ويبرد بلطف عبارته نارًا تصطلي في حشاك، فتشعر أنك بدون الرفيق كالورد بلا الماء خامدٌ شذاك ذابلٌ وجهك تحني الهمومُ ظهرك فلا تجد من يحمل عنك بعضها أو على الأقل تفضي له فترتاح، الثرثرة نعمة والشقيُّ هو الذي لم يجد من يثرثر معه! وهذا ما عانه جدنا الكبير "المتنبي" عندما قال:
"بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ"
جعل الوطنَ والأهلَ بمثابة الصديق، وجعل سببًا من أسباب الشقاء انعدام وجود النديم بقربه ينادمه في غربته ويسامره في وحشةِ ليله ويعوضه عن فراق أهله.
وذاك الملك الضليل، أراه من بعيدٍ يسير في أرضٍ غير ذي زرع، جدباءٌ مقفرة بحوزته القليل من الماء والطعام وفي صدره فيضٌ من المشاعر المضطربة! أحلامٌ معلّقةٌ على شماعة الأمل ولكن ذلك لم يكن كافيًا! لابد من صديقٍ يشحذ هذا الأمل كي يصبح الحلم المتبخر في غياهب الدجى ماءً تتساقط مع انشقاق الفجر، فاتخذ صاحبه ليقطع معه فيافي الصحراء وظلمات الليل ومخاطر السباع وليؤنّسه عن غربة الوطن، وأما صاحبه فآمن به وبحلمه وغامر لأجله وهذا هو ديدن الأصدقاء! وبعد المسير الطويل الذي قطّع أكابد الإبل وأنهك مهج الحالمين تراءى لهما الموت عن كثب، التفت الصاحب إلى صاحبه وقال: غررت بنا! وليته لم يقلها! ما كان ضرّه لو لم ينقص فضله بتلك الجملة! لكنه بشر والنفس عزيزة، فقال امرؤ القيس وهو يرى بقيّة حلمه تتسرب من يديه كما تتسرب الماء عند احتضانها بالكفّين:
بَكى صاحِبي لَمّا رَأى الدَربَ دونَنا
وَأَيقَنَ أَنّا لاحِقانَ بِقَيصَرا
فَقُلتُ لَهُ لا تَبكِ عَينَكَ إِنَّما
نُحاوِلُ مُلكاً أَو نَموتُ فَنُعذَرا
عندما شعر أن الموت يلفح قربهما همّ امرؤ القيس يذكر صاحبه أنهما سارا لأجل غايةٍ عظيمة، والغايات العظيمة تبرر فكرة الموت، فأما أن تظفر بغايتك أو تموت فتعذر!
وها أنا يا صاحبي أخبرك بأنني معك كفي فوق كفك، حلمي يساند حلمك إلى أن نصل إلى مرادنا أو نموت فنعذر
"وكل من سار على الدرب وصل"
_سمير حصري
