
27/07/2025
أنطونيو غرامشي (1891-1937) يُعَد
واحدًا من أبرز الفلاسفة الماركسيي في القرن العشرين. اشتُهر بأعماله التي تناولت العلاقة بين الثقافة، الإيديولوجيا، والهيمنة، كما قدّم إسهامات بارزة في مجال الفكر الفلسفي والاجتماعي من خلال دفاتره التي عُرِفَت بـ"دفاتر السجن". في فلسفته، ركّز غرامشي على العلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة، وسعى إلى إعادة التفكير في دور الفلسفة بوصفها أداة للتحرر والوعي الاجتماعي.
ماهية الفلسفة عند غرامشي
يتناول غرامشي الفلسفة باعتبارها نشاطًا عقليًا نقديًا يسعى إلى تجاوز العفوية الفكرية، أي "الحس المشترك" (common sense)، وصولًا إلى "الحس السليم" (good sense). ينطلق غرامشي من فكرة أنّ الحس المشترك هو شكل من أشكال التفكير اليومي الذي يمثّل خليطًا غير منتظم من الأفكار الموروثة والعفوية، لكنه ليس كافيًا لصياغة رؤية عقلانية نقدية للعالم.
يرى غرامشي أنّ الفلسفة هي نظام فكري أرقى وأكثر تعقيدًا من الحس المشترك والدين. بينما يظل الدين أداة توحيد اجتماعي عبر تقديم رؤية للعالم مشتركة بين جميع فئات المجتمع (كما فعلت الكنيسة الكاثوليكية)، تُطالَب الفلسفة بتقديم رؤية نقدية تُتيح للبشر تجاوز حدود الحس المشترك واستيعاب الواقع بطريقة أكثر تعمقًا.
الحس المشترك والحس السليم
- الحس المشترك: بالنسبة لغرامشي، الحس المشترك ليس تفكيرًا نقديًا بل نتاجًا لظروف تاريخية واجتماعية مختلفة، مليء بالتناقضات والشوائب. إنه يعكس الطابع العفوي وغير المنظم لفهم الناس للعالم.
- **الحس السليم**: على النقيض، الحس السليم هو مستوى أرقى من التفكير، يستند إلى النقد والتأمل. يهدف إلى تصفية الأفكار العفوية من شوائبها وتحويلها إلى رؤية عقلانية ومنهجية قادرة على تفسير العالم وتغييره.
الدين والفلسفة
يشير غرامشي إلى الدور التاريخي للدين في توحيد الجماهير، لكنه يُبرز محدوديته كنظام فكري مغلق يفتقر إلى الطابع النقدي. كان الدين قادرًا على توحيد مختلف الطبقات الاجتماعية تحت رؤية واحدة للعالم، لكنه لم يترك مساحة للنقد الفردي. لذلك، يرى غرامشي أنّ الفلسفة يجب أن تحذو حذو الدين في قدرتها على التوحيد، ولكن من خلال آلية النقد والتفاعل الفكري.
الفلسفة كنشاط نقدي وجماعي
تصور غرامشي الفلسفة كنشاط مشترك، وليست حكرًا على النخب أو حكرًا على التأمل الميتافيزيقي. بالنسبة له:
- الفلسفة موجودة لدى الجميع بشكل عفوي مادام أنّ لكل إنسان رؤية للكون والحياة.
- لكنها تحتاج إلى تطوير هذا الوعي العفوي إلى وعي نقدي قادر على تغيير الواقع.
- هذا التحول من "العفوية" إلى "النقد" يجعل من الفلسفة أداة تحريرية تُخرج الجماهير من السلبية الفكرية.
الطابع العملي للفلسفة
يتضح في فكر غرامشي تأثره العميق بالماركسية، إذ اعتبر النشاط الفلسفي مرتبطًا بالواقع والممارسة السياسية. فالفلسفة ليست منفصلة عن الحياة اليومية، بل هي جزء من النضال الطبقي. بهذا، يرى غرامشي أنّ دور الفلسفة يتمثل في:
- تحريك الوعي العمالي والشعبي نحو الثورة.
- توفير أسس فكرية تساعد على بناء مجتمع أكثر عدالة ومساواة.
إسهامات غرامشي الفلسفية
1. الهيمنة الثقافية (Hegemony): من أهم مفاهيم غرامشي، حيث قدّم رؤية جديدة لفهم السلطة. يرى أنّ الهيمنة ليست فقط اقتصادية بل ثقافية وإيديولوجية، حيث تفرض الطبقة الحاكمة رؤيتها للعالم على الطبقات الأخرى.
2. التربية والتعليم: شدد على أهمية التعليم كوسيلة لإعداد "المثقف العضوي"، وهو المثقف المرتبط بحركة اجتماعية أو طبقة معينة، يسهم في نشر الوعي وتعزيز التغيير.
3. الفلسفة كأداة تغيير: رفض غرامشي الفصل بين النظرية والممارسة، واعتبر أنّ الفلسفة يجب أن تكون متجذرة في الحياة اليومية لتحدث تغييرًا اجتماعيًا ملموسًا.
4. النقد الذاتي: أكّد غرامشي على أهمية النقد الذاتي في الفلسفة، ليس فقط كوسيلة لتطوير الأفكار، بل أيضًا كأداة لتحرير الناس من الأيديولوجيات السائدة.
اعتبر غرامشي الفلسفة نشاطًا نقديًا ومشروعًا جماعيًا يهدف إلى تحقيق التغيير الاجتماعي. رفض حصرها في النخبة، وسعى إلى دمجها مع الحياة اليومية والممارسة السياسية. إسهاماته حول الهيمنة الثقافية والتعليم والفلسفة النقدية جعلت منه شخصية محورية في الفلسفة الماركسية والفكر النقدي المعاصر.
مركز وطن للدراسات