21/12/2025
الرجل المحظوظ فى الصورة
كعادتي كل صباح وأنا أطالع الأخبار، لفت نظري مقطع فيديو نُشر بلأمس للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب وهو يهاجم عضوة الكونجرس الأمريكية من أصل عربي صومالي "إلهان عمر"، ويرميها باتهامات باطلة تمس شرفها وعائلتها؛ زاعماً ارتكابها لزنى المحارم للحصول على الجنسية الأمريكية، ومطالباً بسحب جنسيتها وطردها.
تبسمتُ قليلاً من حدة تصريحاته، وشرعتُ في تصفح ما تبقى من أخبار، لكن خبر "إلهان عمر" ظل عالقاً بذهني، ولم أستطع مقاومة الفضول الصحفي للرجوع إليه والتقصي خلفه؛ فهل صدق ترامب في ادعائه أم أن للأمر وجهاً آخر؟
كنتُ مثلك أيها القارئ، لا أملك معرفةً واسعة بـ"إلهان عمر" سوى أنها عضوة في الكونجرس الأمريكي من أصل صومالي، معروفة بقضايا الدفاع عن المهاجرين ومواقفها ضد الكيان الصهيوني.
وحقيقةً، لم يكن هذا ما دفعني للعودة للخبر، بل كان التمعن في صورتها: امرأة سمراء نحيفة، لا تبهرك بجمالٍ صارخ بمقاييس بلادنا، ترتدي حجاباً عادياً جداً، بل أقل من العادي، لدرجة أنك لو أهديته لعاملة في مصنع أو سكرتيرة في بلادنا، لربما اعتبرته ازدراءً لأناقتها.
ثم تساءلت: من تكون هذه التي يقف أمامها رئيس أكبر دولة في العالم ليجابهها نداً لند؟
أخذني الفضول لمعرفة كينونة هذه السيدة، التي احترتُ في نعتها "امرأة" أم "فتاة" بسبب نحافتها.. لم يهمني وضعها السياسي بقدر ما أبهرتني رحلتها وكيف وصلت لهذه المكانة.
ساعة من البحث كانت كفيلة بأن تضعني في حالة من الذهول؛ إنها ليست قصة عادية، بل ملحمة تصلح لتكون سيناريو لفيلم هوليوودي.
بالتأكيد أيها القارئ، قد ينظر الكثير منا بشيء من الغبطة إلى ما وصلت إليه إلهان عمر؛ تلك الفتاة التي ذاب في عشقها مستشارها السياسي الأبيض الوسيم، المليونير ذو الأصول البريطانية، حتى فاز بقلبها واعلن اسلامه وتزوجها. ربما تمنى البعض مكان زوجها، أو تمنت الفتيات مكانة إلهان التي تشبهنا في دينها وعربيتها وسمرتها وحجابها..
وكعادتنا، ننظر للنتائج ولا نلتفت للمقدمات.
فلنعد بالتاريخ قليلاً.. في ليلة قاحلة من ليالي الصيف الحارق في الصومال عام 1991، خرجت إلهان عمر -التي فقدت أمها وهي في الثانية من عمرها- حافية القدمين بملابس ممزقة. كانت فى العاشرة من عمرها تقريبا ، تتسلل مع أبيها وجدها وإخوتها نحو المجهول، فراراً من حرب أهلية طاحنة قضت على جُلّ عائلتها.
سارت أياماً وأسابيع على أرضٍ قاسية، كان كل مُناها فيها هو "الطعام من جوع والأمن من خوف".
هل تذكر أيها القارئ تلك المشاهد التي كنا نراها في الأخبار للاجئين فارين من ويلات الحروب؟ يحملون زادهم فوق رؤوسهم، يسيرون في لهيب الصحراء، والذباب يعلو وجوه الأطفال النحيلة..
كانت الطفلة إلهان واحدة منهم، تسير وهي تحمل ما يفوق طاقتها، لكنها كانت تتشبث تحت إبطها بكتاب قديم؛ لم يكن مجرد كتاب، بل كان "مصحف جدها" الذي أبت أن تتركه. ليكون له قصة عندها سترويها ف يوم ما .
وصلت لـ "مخيم لاجئين" في كينيا، وما أدراك ما المخيمات في أفريقيا؛ حيث الموت والفساد والهوان. أربع سنوات شاقة عرفت فيها أن الإنسان في بلادها بلا قيمة، وأن الهجرة هي الملاذ الوحيد.
"وحين تدرك أيها القارئ أن الطفلة إلهان كانت سابعة إخوتها الستة، وأنها "آخر العنقود" عند أبيها، تدرك حينها مفارقة عجيبة؛ فلو أن حملات (تنظيم الأسرة) في بلادنا وصلت إلى قلب الصومال آنذاك وأقنعت والدها بالاكتفاء بطفل أو اثنين، لما وصلت إلهان لما هي فيه الآن.
لقد كان سعد الرجل وبركة حياته يكمنان في مولوده السابع، لا الأول ولا الثاني ولا حتى السادس!
هذا الأمر جعلني أعيد النظر في قضية "تحديد النسل" برؤية مختلفة؛ فمن سبر أغوار اللجوء يدرك أن ذلك الوالد ربما لم يكن ليحصل على حق اللجوء في تلك البلاد البعيدة لولا استناده إلى أطفاله السبعة.
هناك، في تلك البلاد، يُنظر للأبناء كأيدٍ عاملة وعقولٍ مبدعة وثروة بشرية تُستثمر، بينما في بلادنا، غالباً ما نشعر أن الأبناء أصبحوا "علة" على الوطن وعبئاً على مواردنا."
ونعود الى قصتنا في عام 1995، هاجرت إلى أمريكا. لم تكن الحياة هناك سهلة لطفلة مسلمة محجبة؛ واجهت التنمر في مدرستها، وكان أقل ما يُفعل بها هو لصق العلكة بحجابها ودفعها للسقوط أرضاً.
لكن بعد 5 سنوات، حصلت على الجنسية الأمريكية لتفتح لها أبواباً أُغلقن في وجهها بوطنها.
عمل والدها سائقاً لسيارة أجرة، وكانت هي ترافقه وتترجم لجدها، حتى صُقل فكرها السياسي. دخلت الجامعة، حصلت على بكالوريوس السياسة والاقتصاد،
وترشحت لتكون نائبة في ولايتها، ثم عضوة في الكونجرس الأمريكي، لتقسم فى الكونجرس الامريكي على ذلك "المصحف" القديم نفسه مصحف جدها الذي حملته تحت إبطها وهي طفلة نازحة حمل معها عبق رحلتها.
"ولعلنا هنا نقف أمام نقطة فارقة في تاريخ السياسة الأمريكية؛ فبسبب إلهان عمر، اضطر الكونجرس الأمريكي لتغيير قانونٍ صارمٍ عمره 181 عاماً، كان يحظر ارتداء أغطية الرأس داخل قاعة المجلس. وبذلك، لم تدخل إلهان التاريخ كأول عضوة محجبة فحسب، بل كقوةٍ غيرت القوانين لتناسب هويتها لا العكس.
وهذا شاهدٌ على تمسكها بمبادئها؛ ففي قلب مجتمعاتٍ يخبرك أبناؤها -وربما المنهزمون من بني جلدتنا- أن عليك "التشبه بمن حولك" لتصل وتنجح، فعلت إلهان العكس تماماً. تمسكت بحجابها وفرضت حضورها به، فجعلها هذا التميز استثناءً يشار إليه بالبنان، وأثبتت أن النجاح لا يتطلب خلع الهوية، بل فرض احترامها."
ورجوعا للمقدمة إن اتهامات ترامب لها قد ثبت بطلانها وفقاً للتقارير الرسمية؛ فالقانون الأمريكي لا يمنح الجنسية بالنسب، كما لم يثبت وجود صلة قرابة بزوجها السابق.
وأنا متأكد أن إلهان ستخرج من هذه الأزمة أقوى، فمن اجتاز سنوات اللجوء والموت لا يكسره ضجيج السياسة.
وهذا لا يعنى انها ليس لها أخطاء بل ربما تكون ما وصلت اليه من ثراء هو محنة أخرى أو اختبار أخر يعلمه الله .
لكن الشاهد في هذه القصة هو هذا الجانب الاخر:
إياك أن تنظر للمحن على أنها النهاية، بل انظر إليها على أنها "مِنَح" في باطنها خير لا تدركه الآن.
قصة إلهان تخبرك أن ما نحسبه شراً محبطاً قد يكون منبع الخير لنا، وأن الدنيا إن ضاقت بك، فهاجر وسافر.. ففي الحركة بركة، وفي السفر عوض، كما قال الشاعر: "سافر تجد عوضاً عمن تفارقه".