
01/02/2025
"الأعراس الموسمية" في الريف اليمني
مناسبات مرهونة بحصاد المحصول
ـــــــــــــــــــــــ * * * ـــــــــــــــــــــ
حجَّـة 21// تقرير: شيماء القرشي
جرت العادة في معظم مناطق الريف اليمني تدشين مناسبات الأعراس بالتزامن مع مواسم الحصاد، أو في أعقابها، لاعتباراتٍ كثيرة تُعزى -في معظمها- إلى العامل الاقتصادي الذي يرتكز على مردود المحصول الزراعي، نظرًا إلى كون السواد الأعظم من سكان الريف اليمني يعتمدون على الزراعة كمصدرٍ رئيس للدخل، إلى جانب تربية الماشية وبعض الأنشطة الأخرى ذات الارتباط العضوي بالبيئة المحلية وعلاقة الإنسان بالأرض.
في السنوات الأخيرة التي ترافقت مع فترة الحرب في اليمن، وما نجم عنها من تداعيات على مجمل القطاعات الحياتية، ولاسيما الجانب الاقتصادي، أصبح المتغير المادي لعائد المحصول أكثر أهمية وارتباطًا بما يمكن وصفه بـ "الأعراس الموسمية" كـ سِمةٍ غالبة في ثقافة الريف اليمني والمجتمع الزراعي بشكلٍ خاص.
،يذكر عبد الكريم محمد، وهو أمين شرعي (مأذون)، ما يؤكد هذه الخصوصية الموسمية لمناسبات الزواج، يقول: "من واقع تجربتي كأمين شرعي لاحظت الكثير من الأسر في الريف اليمني تفضل تحديد موعد الزواج بناءً على المواسم الزراعية، خاصة في موسم الحصاد أو بعد بداية موسم الأمطار.. السبب الرئيسي في ذلك هو الاستقرار المالي الذي توفره هذه الفترات، حيث يكون لدى الأسر وفرة اقتصادية تُعين على تغطية تكاليف الزفاف".
إلى جانب ذلك، يشير عبد الكريم إلى جزئية حساسة تتمثل في كون "كثير من الأسر الريفية تعتقد أن الزواج في هذه الفترات يضمن التوفيق والبركة في الحياة الزوجية... وهو ما يجعل هذه المواقيت أحد العوامل التي يحرص الناس على مراعاتها لضمان أن تكون بداية الحياة الزوجية في أفضل الظروف الممكنة"، حد قوله.
فرصة لا تخلو من ضغوط
"تعين عليَّ إقامة زفافي في موسم الحصاد لأنه الوقت الأنسب من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، لي ولغيري من ابناء الريف المعتمدين على الزراعة كمصدر دخل؛ حيث إننا بعد موسم الحصاد نكون قد جنينا المحاصيل، مما يوفر السيولة المالية االلازمة لتنظيم الزواج"، يقول عبد الواحد الزريقي (34 عامًا) لـ "ريف اليمن". يستطرد: "المطر يرمز إلى النمو والحياة، كان من الطبيعي أن أختار هذا التوقيت ليكون بداية لحياة جديدة.
رغم هذا الانطباع المثالي والحيثيات المنطقية في تعليل العلاقة بين إقامة حفلات الزفاف والسيولة المالية التي يجنيها القرويون من عائدات محاصيلهم الزراعية عقب -أو خلال- مواسم الحصاد، لا يغفل البعض عن الإشارة إلى وجود ضغط مضاعف خصوصًا على الفتيات الريفيات المقبلات على الزواج وأسرهن يتمثل في الجمع بين الانشغال بالترتيب لإجراءات الزفاف والانشغال بالأعباء الزراعية التي تترافق مع موسم الحصاد أوما يليه من مهام ما بعد جني المحصول.
تقول ملوك عبد الوارث (27 عامًا): "الزواج أثناء موسم الحصاد في اليمن يحمل الكثير من التحديات بالنسبة لنا كفتيات ريفيات.. وعلى الرغم أن هذه المواسم توفر بعض الاستقرار المالي للأسر بفضل وفرة المحاصيل، إلا أنني أرى أن هذه العادة تضع ضغوطًا كبيرة على الفتيات خاصةً انهن يشاركن في عملية الحصاد، حيث يكون الأهالي من المزارعين مشغولين في العمل بالأرض، مما يجعل الأسرة تركز أكثر على الإنتاج الزراعي بدلاً من التحضير الكافي لمراسم الزواج"، وبحسب ملوك فإن "هذا التوقيت قد يؤدي إلى تقليص الخيارات المتاحة للفتاة ويُفرض على الفتاة إتمام الزواج بسرعة دون استعداد كامل".
تقليد ثقافي متوارث
حول ذات الموضوع، يشير الدكتور هزاع الحمادي – مختص في التاريخ اليمني، إلى أن تقليد إقامة مناسبات الزواج بالتزامن مع مواسم الحصاد والخصب والأمطار ليس وليد الظروف الحالية، إنما له امتدادٌ ضارب في عمق التاريخ لدى المجتمعات الزراعية. يقول: "في العديد من الثقافات حول العالم، يرتبط توقيت الزواج ارتباطًا وثيقًا بالمواسم الزراعية، ليس فقط الزواج بل حتى العبادات والقرابين والنذور ومختلف الطقوس الدينية والاجتماعية حيث تُعتبر هذه الفترات هي الأنسب، بسبب الوفرة".
يوضح أيضًا "في اليمن القديم، كان للزراعة دور محوري في بناء المجتمع وتحديد أبعاده الاقتصادية والاجتماعية وكانت المواسم الزراعية، تمثل أوقاتًا مهمة بالنسبة لليمنيين في مختلف الدول اليمنية القديمة.، حيث كانت الأسر تشهد زيادة في الموارد المالية نتيجة لمحاصيلها الزراعية. من هنا، كانت العائلات في اليمن تختار توقيت الزواج خلال هذه الفترات لضمان قدرتها على تأمين كافة متطلبات العرس، ما يعكس التفاعل بين الدورة الزراعية والأنماط الاجتماعية".
وفقًا للحمادي فإن الزواج في فترات الحصاد بالنسبة للمجتمعات الزراعية يُعد خطوة نحو الاستقرار والازدهار، حيث إن ارتباط الزواج بموسم الحصاد كان -ولازال- يعني بداية حياة جديدة تتماشى مع دورة الأرض وخصوبتها، لذلك يبدو من الطبيعي اقتران تقويم موسم الحصاد الزراعي بمواعيد إقامة حفلات الزواج، كونه يعد عنصرًا جوهريًا يعكس الثقافة اليمنية القديمة وعلاقتها العميقة بالأرض والزراعة كمصدر رئيسي للعيش".
رمزية البدايات الواعدة
يعكس تقليد الأعراس الموسمية في الريف اليمني تداخلًا وثيقًا بين الثقافة الزراعية والأنماط والظروف الاجتماعية في فسيفساء الريف اليمني بمختلف بقاعه وشِعابه وخلفيات فلكلوره الثقافي في الجبل والسهل؛ حيث يتجلى من خلاله الارتباط الخفي والظاهر للأرض في تشكيل تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع الريفي في اليمن، فضلًا عن الرمزية التي يكتنفها هذا التقليد الشائع كتجسيدٍ مجازي للخصوبة والاستقرار، وفاتحةً لبناء مستقبل جديد للأزواج في بيئة تعتمد على الزراعة كمحرك أساسي للاقتصاد والمعيشة، وهي بذلك تتجاوز كونها مجرد استجابة اقتصادية للواقع الريفي، بقدر ما تمثل إرثًا ثقافيًا متجذرًا يُبرِز العلاقة العميقة بين الإنسان والأرض، ويُعيد تعريف مفهوم البركة والوفرة والبدايات الواعدة.